حلقت الروح في ملكوت السماوات و الأرض، تطوف بين ضياء خافتة كفراشة متلهفة للرحيق المختوم.. سرعان ما تشدها لوحة بصرية تسر الناظرين.. تناغم يجمع بين الخضرة و خرير المياه و زقزقة العصافير.. على الضفة الجنوبية لأم الربيع، شيدت معلمة سياحية قروية تغص بالعشرات من السياح، هبوا من كل فج عميق.. أطفال و شباب تظهر عليهم آثار النعمة و طيب العيش… فتيان و فتيات في عمر الزهور.. يمتطون قوارب لم تعهد سوى عند علية القوم.. إنها قوارب ” الكياك” تمخر عباب النهر.. يتفننون في تفاصيل هذه الرياضة النخبوية الجميلة.. المشهد مغري .. تقاسيمهم تسر الناظرين و تزيدهم كل ابتسامة بريئة بهاء و إشراقا.. من هم هؤلاء الأطفال و الشباب؟ استراقة للسمع.. تعرف أنهم أطفال الرحامنة الشمالية.. تضرب الأخماس في الأسداس و تتساءل كيف؟ فتحت القريحة لمعرفة المزيد للعلم المسبق بأن هذه القبيلة موغلة في بيداء الفقر و الإملاق… تسمع من بعض الحضور أن هؤلاء الشباب أصبحوا أبطالا يحصدون الميداليات و يشرفون قبيلتهم في المحافل الدولية أحسن تشريف.. لا يقبلون إلا بالميداليات الذهبية و الكؤوس الضخمة… تتساءل ما السر المكنون وراء هذه الطفرة النوعية أو بالأحرى الثورة التي غيرت الملامح رأسا على عقب، و جعلتهم ملائكة على ضفاف أم الربيع ينظمون كل أهازيج الفرحة و النشوة و الحبور في سمفونية جميلة… يخبرك رجل في عقده السادس.. إنها سمفونية التنمية المملحة بملح السياحة القروية،.. نظم ألحانها ملحن لم يأتي به زمان و لن يأتي بأحد بعده و لن تدرك مداركه العقول… زاد الفضول لمعرفة هوية هذا المايسترو العظيم الذي يجيد تنظيم فرقته و ترتيب المقاطع.. يقاطعك الشيخ .. و هو يثني عليه ثناء حسن.. إنه فنان عظيم رتب مقاطع التنمية و شد أوتار الآلات الوترية و نظم لنا ألعاب الرحامنة التي تغنت بها العذارى في ليالي دخلتها.. وتواترتها الجدات عبر أخاديد الزمان… بفضله و بصيرته الرحامنة الشمالية أصبحت جنة الخلد.. أعناب و نخيل و رمان.. جنان فوق الأرض.. غيرت ملامحها القاحلة رياضة الكياك.. أنست أهاليها سنوات الجحيم و الأنين و فتحت لهم أبواب الجنة.. مكنت أبناءهم من حصد مدخول سنوي يجاوز الدخل السنوي للفرد بالدول الاسكندنافية..
انسحبت الروح في سكون.. و سافرت منتشية بما أبصرت و سمعت.. تسبح كأنها ملاك سعيد.. ازدادت استبشارا و طربا.. حينما حطت في رقعة أخرى علمت فيما بعد أنها جماعة يطلق عليها بوروس بالرحامنة الجنوبية.. جماعة قروية فريدة و متفردة…
نصبت فيها ذات يوم الخيام وأشعلت فيها القدر و قدمت فيها الخرفان مشوية.. و أصوات الآلات الوترية و الإيقاعية و نقر الدفوف وهز الأرداف و البطون، تزيد الفضاء لهيبا.. و ساكنة مسكينة تنظر بعين دامعة و قلب باكي بأسف للفاتح العظيم و هو يتناول الشواء بمعية “علية القوم”.
بينما يحوم الطيف بين تلال و هضاب بورووس .. تلوح في الأفق جماهير غفيرة من الناس… تتابع المشهد عن كثب.. سياح من كل بقاع العالم.. جنسيات مختلفة.. سحر بجمالية المنطقة الساحرة..
بدا شباب و شابات الرحامنة الجنوبية.. أبطال ذلك الجمع المهيب.. جاء رجل يسعى… قائلا: يا قوم إن ألعاب الرحامنة كسرت الجليد و فتحت لنا كنوز قيصر و كسرى.. و أضحى شبابنا أغنياء و أثرياء و انفرطت سبحة زواج المتعة مع الفقر.. أصبحوا أرقاما لا يستهان بها في الحقل الرياضي… كونتهم الجامعات في الرياضات السياحية.. و صارت بولريوس يأتيها الزوار من كل حدب و صوب و يتهافتون عليها من كل فج عميق.. تغيرت بوروس رأسا على عقب.. اندثرت ملامح البداوة و غزتها ملامح العمران و الثقافة العالمية… و فضلت الشركات العالمية الاستثمار فيها بدلا من دول الصين و التنيينات الأربع و ذلك من ثمرات التسويق الترابي و الجماعة الذكية.. حينها تدرك أن أسطوانة التنمية التي سمع صداها بالرحامنة الشمالية هي نفسها تتكرر في هذه القفار الموحشة.
تركت المكان.. بقلب مملوء بالفرحة و الحبور على محيا الجميع.. إنها فعلا التنمية الحقيقية المنشودة التي تغير من حال إلى حال… إنها العبقرية و فن تسيير الإدارة الترابية… تلك هي ثمرات السياحة الرياضية بالرحامنة في الحياة البرزخية.