يبدو سياسيو اليوم مثل قطع أثاث قديمة. لا تستطيع أن تستخدم هذه القطع لأسباب عملية وجمالية، ولا تريد أن تتخلّص منها لأنها أنتيكات لربما تصبح لها قيمة بعد حين. السياسيون، ومثلهم إلى حد كبير المثقفون، تم إعدادهم لعصر آخر لم يبق منه الكثير. كلما حاولوا التجمّل بقصد الانتماء إلى العصر المتقلب الذي نعيشه، بانت عليهم علامات شد الوجه ونفخ الشفاه. الوجه الذي فقد نضارته وشبابه قد يخفي التجاعيد باستخدام البوتوكس، ولكنه لا يستطيع أن يرسم ملامح تأثر حقيقية. وجوه السياسيين تبدو جامدة وفيها من الذهول أكثر ممّا فيها من الحيوية.
السياسي هو ابن النظام الحزبي القديم. يعرف مرجعيّاته ويتصرّف على أساسها. يحدد خياراته في مرحلة عمرية مبكرة. وحين يتقلب، فإنه يتقلب بسبب تغيرات يدرك معناها. هو يساري مثلا، أو يميني، أو يتقلب بين الاثنين. والتقلبات، على حد وصف أكثر من حكيم، تتم وفقا لدوافع عمرية أو انتهازية. فأنت يساري في مطلع الشباب لأن لديك قلبا، وأنت يميني في منتصف العمر لأن لديك عقلا. المرجعية العمرية تتوافق مع المرجعية الفكرية. التظاهرات اليسارية عادة مليئة بالشباب، والتصريحات اليمينية والمواقف تأتيك ممن خبروا صعوبات تحقيق الأحلام، وصاروا أكثر واقعية في نظرتهم للأشياء.
التطورات السياسية في العالم دفعت إلى درجات رمادية بين اليسار واليمين. صار هناك الوسط، ويسار الوسط ويمينه. ملكية اليسار لم تكن محسومة بالطبع ولا اليمين. شيوعية، ماركسية، تروتسكية، ماوية، فاشية، يمين جديد… وعُدّ ولا تتردد. تنويعات ساذجة في عالمنا العربي رافقت هذه التصنيفات، من عدم الانحياز إلى تقليم الشوارب بما يشبه هتلر.
اليمين واليسار، وما بينهما وتلويناتهما، كانا يجعلاننا نحس بالأمان. هناك خطوط دلالة تقف بالقرب منها أو بعيدا عنها. صحيح أن الهتّافين في الكثير من التظاهرات التي تقودها الحركات الأيديولوجية لا يعرفون معاني أغلب ما يرددونه من شعارات، ولكن ثمة إحساس عام بأن هذا هو شكل المسيرة. تحب اليسار أو تكرهه، تنتمي إلى اليمين أو تحاربه، إلا أنك تعرف أين تقف. هل يستطيع أحد أن يشير بهذا اليقين الآن إلى إيمانه الفكري، دع عنك توجهاته العقائدية؟ ربما هو سؤال صعب لأسباب مرتبطة بالعصر وبالأيديولوجيات على حدّ سواء.
موجة الفكر الديني مسحت الكثير من فكرة اليسار واليمين. أيّ محاولة لتوصيف الدين باليمين واليسار لا تستقيم مع المعطيات. الفكر الديني متقشّف كاليسار ومتزمّت كاليمين. يجمع الصدقات ولا يتردّد في إزهاق الأرواح. يتحدث عن دين لكل الناس ولكنه يبقي على احتكاره للدين، إما لصالح المرجعيات ومؤسساتها، أو لطائفة دون غيرها. وإذا كانت أحزاب اليسار واليمين ”تزعل” من تاركيها إلى الطرف الآخر، فالفكر الديني يلوّح بسلاح التكفير، وهو سلاح خطير يصيب ما هو اجتماعي لدى الإنسان ويدمّر حياته قبل أن يكون عرضة للتصفية الجسدية. الفكر الديني، بأوجهه الحزبية والوعظية، هو أول ملمح من ملامح الشعبوية التي تمتد اليوم لتخنق المجال الحياتي للمجتمعات.
الشعبوية السياسية في الغرب ألغت بدورها مرجعيات اليسار واليمين، ولكن من دون الحاجة إلى فكر ديني. الغرب الذي امضي مئات السنين في صياغة الفكر الليبرالي السياسي، يجد نفسه شبه عاجز أمام المد الشعبوي. الغرب الذي أمضى قرونا للسموّ بالفكر الإنساني بما يتجاوز ماضيه، يقف الآن مذهولا أمام العودة إلى الغرائز. السياسي الغربي التقليدي، الذي اعتاد على وزن الأمور ضمن برنامج الحزب ومشاريعه، لا يستطيع الرد الآن بسهولة على اللغة الشعبوية السائدة والتي يتصدر الصفوف فيها اليمين المتطرف. حتى وصف هذا التطرف بالفكر اليميني فيه نوستالجيا فكرية أكثر منه حقيقة. الغرائزية المتطرفة قد تكون الوصف الأقرب للواقع.
الغرائزية المتطرفة يمكن أن تنسف المشروع المدني في أوروبا كما شتت الفكر الديني السياسي المشروع الوطني المدني في بلدان الشرق الأوسط. الضغوط التي تواجهها المجتمعات الغربية الآن، الاقتصادية منها والسياسية، جعلتها حساسة جدا من أيّ ملمح لثقافة الآخر «الدخيل”. المشروع الأوروبي أمام امتحانات ليس أولها الخروج البريطاني ولا تدفق اللاجئين. المشروع الأميركي يئن تحت الضغط الاجتماعي والاقتصادي من قبل أن يأتي دونالد ترامب ويتحدث عن استبعاد الأجانب من المسلمين أو إقامة الحدود مع الجنوب الناطق بالإسبانية. هل بإمكان أحد أن يصف روسيا اليوم وفقا للمعايير السياسية السابقة؟ هل هي دولة أرثوذكسية دينية أم دولة تنتقم من إرث الإهانة للمشروع السوفييتي أم دولة للمافيا التي تسيطر على كل مفاصل الحياة؟
“ربيع” الشعبوية أطاح باليسار واليمين وأضاع علينا البوصلة.