في هذا الوطن، صور سوريالية مخيفة تحملها الأيام بين تلابيبها.. و الصورة الأكثر قتامة هي تلك التي ظهرت بحر هذا الأسبوع.
صورة البحث عن الحلم المفقود في الوطن الذي ينبغي أن يوفر أبسط الأحلام المشروعة لأبنائه.. صورة المغامرون و الحالمون بحياة رغيدة في رحلة و نزوج حماعي بطعم الموت..
صورة محاولة فرار الآلاف من الشباب و القاصرين من حضن الوطن إلى مدينة سبتة المحتلة، تجمع بين عناصر غير مرتبطة و متناقضة بطريقة غير متوقعة.
العناصر غير المرتبطة و المتناقضة التي حملتها الصورة من معبر سبتة، هي عزف الحكومة في الليالي المقمرة و غير المقمرة أسطوانة و معزوفة جميلة المبدأ و المفهوم للدولة الاجتماعية و تسعى لتنزيلها بمنظورها الضيق عبر مبادرات خجولة و محتشمة، تمجدها اليوم في كل ملتقياتها و مجالسها و قنواتها.. و في المقابل ظهرت حركة نزوج و هجرة جماعية رجت أركان المجتمع لأطفال و شباب كان الأجدر و الأحرى أن يكونوا في المدارس و مراكز التكوين و مدرجات الجامعات… من هنا يظهر التباين بين خطابات الحكومة و صوت الشارع..
الدلالات العميقة التي تحملها محاولة الهجرة الجماعية للشباب و القاصرين ما هو إلا غيض من فيض لفشل حكومي في تأمين حياة أفضل للأجيال، و رجالات المستقبل، كما فشلت سابقاتها في تأمين حياة رغيدة لأسرهم و عائلاتهم.
صورة الشاب و القاصرالمميز و غير المميز -أقل من 13 سنة- و هو يحاول بإرادة صلبة الارتماء بين أحضان الموت في رحلة المجهول بحثا عن حياة جديدة أكثر عدلا و لو في وطن غريب، ما هو إلا تقييم حقيقي لسياسة اجتماعية فاشلة لم تستطع توفير الحماية الاجتماعية التي يرنو لها الجميع، سواء تجلت في السكن، أو العمل، أو الرعاية الصحية..
يعد نبض الشارع بمثابة مجسة حقيقية لنجاحات أو إخفاقات أي سياسة حكومية. لكن هذه المرة الارتداد الزلزالي أشد قوة على سلم السلم الاجتماعي من أي وقت سابق. و الرسالة أكثر بلاغة و فصاحة من أي رسالة سابقة، رغم أن الحكومة لا تكثرت للرسائل التي تبعثها كل الحركات الاجتماعية و تمزقها تمزيقا.. لكن عندما تأتي الرسالة من فئة عريضة لم تكن يوما في صلب الحركات الاجتماعية، و تكشف عن وجهها هذه المرة، فهذا إنذار حقيقي لا ينبغي التفاعل معه بكل هذا البرود و يمر على الحكومة مرور الكرام و تعتبره اندفاعات و قفشات شبابية.. بل هو تنقيط لسياسة حكومية لم تتجاوز في امتحان الحماية الاجتماعية 5/40.
ما وقع بمعبر سبتة، هو دق لأجراس أزمة اجتماعية كاسحة، بدأت تتجلى بوادر انفجاراها.. و هو كذلك دق لنواقيس دير الحكومة، لتستفيق من سباتها العميق و تعنتها المبالغ فيه، و تعود من الغي إلى الرشد بتبنى سياسة سوسو اقتصادية حقيقية بعيدة عن تلك التي أنتجتها أبخرة أحلامها في حدائقها المعلنة و غير المعلنة. و إن لم تستطع أن تحدث ثورة اجتماعية على أرض الواقع و ليس تلك التي تروج في المواقع ما عليها إلا أن تعيد المقود لأصحابه لأنها ببساطة تساهم في تعميق الهوة بين أجيال و فكرة الوطن التي تسعى كل القوى الحية بمختلف تلاوينها بناءه.